اكتئاب ما بعد الولادة
تُظهر 18.4٪ من السيدات الحوامل و19.2٪ من الأمهات في الأِشهر الثلاثة الأولى بعد الولادة أعراضاً اكتئابية، وتظهر أعراض الاكتئاب الجسيم المستوجب للعلاج لدى 12.7٪ في مرحلة ما قبل الولادة، و7.1٪ في مرحلة ما بعد الولادة. وفي المملكة المتحدة تطلب 20 إلى 40٪ من السيدات المصابات بالاكتئاب عوناً اختصاصياً، ومن أصل 100.000 حامل وامرأة حديثة الولادة (في الأشهر الستة الأولى بعد الولادة) سنصادف انتحاراً لدى 0.2.
فالاضطرابات الاكتئابية تُشكل السبب الأول للعبء المرضي (Disease burden) عند السيدات في عمر النشاط التناسلي في كل أنحاء العالم، كما أنها المرض النفسي الأكثر شيوعاً في فترة ما بعد الولادة. ولا تجوز الاستهانة بتأثيرات هذه الاضطرابات، التي لا تقتصر على السيدة ذاتها، بل تتجاوزها ليمتد أثرها إلى الطفل والمحيط الاجتماعي الأوسع.
آثار اكتئاب ما بعد الولادة على الأم والطفل:
تتشارك الأعراض الاكتئابية في فترة ما قبل الولادة مع تزايد خطر الولادة المبكرة، وتأخر النمو داخل الرحم، وقد يترافق ذلك عند الأمهات أيضاً مع عدم كسب وزن الأم بشكلٍ كاف، عدم التزام الأم بالزيارات والفحوص الدورية، وزيادة الميل لسوء استخدام الأدوية الطبية أو غيرها من المواد غير المرخصة.
ويلاحظ لدى الأمهات المكتئبات اللاتي لديهن أطفال يتراوح أعمارهم بين 6 و12 شهراً نقصاً في التواصل اللغوي والبصري معهم، أما لدى الأطفال أنفسهم فنجد: مشاكل في النوم والرضاعة، السلوك التجنبي المتمثل بالإشاحة بالنظر، تنحية الجسد، نقص القدرة على التعديل الذاتي للمزاج، أضافة إلى شيوع اضطرابات التغذية والتمثيل الغذائي بينهم.
ويلاحظ على المدى الطويل أنه يمكن لنمط الارتباط غير الوثيق (بين الأم والطفل) والذي قد يمتد حتى سن البلوغ أن يؤدي إلى تدنِ في الإمكانيات المعرفية، والعاطفية، واللغوية والاجتماعية للطفل، كما تشير بعض الدراسات إلى إمكانية ارتفاع خطورة الإصابة بالاضطرابات المزاجية بعمر 16 سنة حتى 4 أضعاف.
أعراض اكتئاب ما بعد الولادة:
لا بد من التفريق بين الاكتئاب التالي للولادة وبين اضطراب ال Baby Blues، أي اكتئاب ما بعد الحمل العابر، والذي يصيب 50 ٪ إلى 80٪ من الأمهات في الأيام العشرة الأولى التالية للولادة، وكذلك لا بد من التمييز بين الاكتئاب التالي للولادة عن النفاس التالي للولادة الذي يحدث بندرة لا تتجاوز 0.1 إلى 0.2 ٪ لكنه، ولما يسببه من خطورة على كل من الأم والوليد، يستلزم علاجاً فورياً في مشفى تخصصي ما أمكن الأمر.
أما حيث أعراض اكتئاب ما بعد الولادة، فغالباً ما تعاني الأمهات المصابات باكتئاب ما بعد الولادة من مخاوف الإخفاق والفشل، فيلاحقهن همّ أن يكن „أمهات سيئات” عاجزاتٍ عن تلبية احتياجات الطفل الوليد، وكثيراً ما يوصف الطفل من قبلهن بأنه „صعب ومتطلّب”، ويجري تأويل أعراض الطفل ومشاكل الإرضاع التي كثيراً ما تظهر في سياق هذا الاضطراب كما لو كانت توكيداً لمخاوف الإخفاق في تلبية متطلبات الأمومة، مما يعمّق الدائرة المعيبة من المخاوف والإنهاك.
ومقابل خلفية من التوقعات الشخصية والاجتماعية لوقت ملؤه السعادة، ترتبط المشاعر المعاكسة التي تعتري الام بمزيد من الرفض والتحريم الشخصي والاجتماعي، الأمر الذي لا يكون بهذه الشدة في حالة الاضطراب الاكتئابي غير المرتبط بالحمل أو الولادة، فيصعب على الأمهات في كثير من الأحيان أن يعبرّن عن مشاعرهن السلبية تجاه الطفل أو عن مخاوفهن من الفشل في أداء الوظيفة الأمومية.
وتتعرّض الأمهات لعبء من نوع خاص عندما يختبرن أفكاراً ودوافع وسواسية تتضمن القيام بسلوك مؤذٍ للطفل، إذ تشير إحدى الدراسات إلى أن خواطر يتضمن محتواها قتل الطفل قد تتوارد بنسبة تزيد عن 60٪ لدى الأمهات المصابات بالاكتئاب الجسيم، أي أكثر من ضعفي تواردها لدى الأمهات المصابات باضطرابات نفاسية أو بالاضطراب ثنائي القطب (أقل من 28٪). ولكن هذه الدراسة ترى أن القيام بسلوك متوافق مع هذه الأفكار (سلوك مؤذ فعلياً للطفل) يكاد يقتصر على المريضات المصابات بالأوهام، أي بأعراض نفاسية، لكن دراسات أخرى تشير إلى ميل في التهاون في تقييم الخطر المهدّد لسلامة رضع الأمهات المكتئبات، حيث قد تطرأ محاولات قتل الطفل من منطلقات إيثارية (الخوف على مصير الطفل بسبب تقييم الأم السيء لذاتها ولقدرتها على تأدية الوظيفة الأمومية)، كما قد يلعب خوف الأم من الانفصال عن الطفل ووجود اضطرابات ارتباط عند الأم دوراً في ذلك.
ويكون خطر تعرض الطفل للقتل في سياق مرض اكتئاب ما بعد الولادة على أشده في العام الأول، ويندّر حدوث الانتحار وارتكاب محاولات الانتحار في فترتي الحمل والإرضاع، وتتمثل أساليب الوقاية بشبكة الدعم المحيطة والنظام الصحي والاهتمام بدعم الأم والطفل قبل وبعد الولادة.
وعلى الرغم من الوقاية تعتبر السيدات المصابات باضطراب نفسي على درجة عالية من الخطورة الانتحارية في مرحلة ما بعد الولادة، فتشير إحدى الدراسات إلى ارتفاع خطورة الانتحار بنسبة 72 ضعفاً في العام الأول للطفل، وذلك لدى السيدات اللاتي توجّب علاجهن دخول المشفى لاضطراب نفسي في الفترة التالية للولادة، ومن اللافت للنظر أن السيدات يلجئن إلى وسائل انتحارية غير مألوفة في شدتها وخطورتها.
أما بالنسبة للاضطراب النفاسي التالي للحمل فيتمثل بأعراض نفسية معينة كالأوهام، وسماع الأفكار الذاتية بصوت عال، الاعتقاد بسحب الأفكار، إضافة إلى الهلوسات من سمعية أو غيرها، وفي أغلب الحالات تظهر هذه الأعراض في الأسبوعين الأولين بعد الوضع.
وقد يلاحظ ظهور أعراض سلبية أخرى مثل "فقر الوجدان" (غياب إمكانية التعبير العاطفي) أو "كلل الوجدان" (درجة أقل وطأة من نقص التعبير العاطفي) إضافة إلى الوجدان غير المناسب (إظهار عاطفة لا تلائم الموضوع المتناول، كالضحك عند ذكر وفاة عزيز مثلاً).
ومن وجهة نظر تصنيفية يبدو أن النفاس التالي للولادة أقرب لأن يكون انعكاساً للاضطراب ثنائي القطب، ذلك أنه يمكن ملاحظة ظهوره لدى 25 ٪ إلى 50 ٪ من السيدات المصابات بالاضطراب ثنائي القطب (الاضطراب الهوسي الاكتئابي).